سورة النحل - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


قلت: {رِزْقًا}: مفعول بيملك، فيحتمل أن يكون مصدرًا، أو اسمًا لما يرزق، فإن كان مصدرًا، فشيئًا مفعول به؛ لأن المصدر ينصب المفعول، وإن كان اسمًا، فشيئًا بدل منه. وجمع الضمير في {يستطيعون}، وأفرده في {يمْلك}؛ لأن {ما} مفردة؛ لفظًا، واقعة على الآلهة، فراعى أولاً اللفظ، وفي الثاني المعنى.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ويعبدون من دون الله} أي: غيره {ما لا يَملك لهم رزقًا من السماوات}؛ بالمطر {والأرض}؛ بالنبات، فلا يرزقونهم من ذلك {شيئًا ولا يستطيعون}: لا يقدرون على شيء من ذلك؛ لعجزهم، وهم الأصنام، {فلا تضربوا لله الأمثالَ}؛ لا تجعلوا له أشباهًا تشركونهم به، أو تقيسونهم عليه، فإنَّ ضرب المثل تشبيه حال بحال، {إنَّ الله يعلمُ} ألاَّ مِثلَ لَه، أو فساد ما يقولون عليه من القياس، {وأنتم لا تعلمون} ذلك، ولو علمتموه لما تجرأتم عليه، فهو تعليل للنهي، أي: إنه يعلم كنه الأشياء، وأنتم لا تعلمون، فدعوا رأيكم، وقفوا عندما ما حد لكم.
الإشارة: كل من ركن إلى شيء دون الحق تعالى، أو اعتمد عليه في إيصال المنافع أو دفع المضار، تصدق عليه الآية، وتجر ذيلها عليه، فلا تجعلوا لله أمثالاً تعتمدون عليهم وتركنون إليهم، فالله يعلم من هو أولى بالاعتماد عليه والركون إليه، وأنتم لا تعلمون ذلك، أو تعلمون ولا تعملون، ولقد قال من عَلِمَ ذلك وتحقق به:
حَرَامٌ عَلَى مَنْ وَحَّد الله رَبَّهُ *** وأَفْرَدَهُ أَن يجتدي أَحَدًا رِفْدا
فَيَا صَاحِبِي قِفْ عَلَى الحَقِّ وَقْفةً *** أمُوتُ بِها وَجْدًا وأحْيَا بِها وجَدا
وقُلْ لملوكِ الأرْضِ تَجْهدَ *** فَذَا المُلْكُ مُلكٌ لا يُبَاعُ ولا يُهْدَى
قال سهل رضي الله عنه: «ما من قلب ولا نفس إلا والله مطلع عليه في ساعات الليل والنهار، فايما نفس أو قلب رأى فيه حاجة إلى غَيْرِهِ، سلط عليه إبليس». وقال الأستاذ أبو علي الدقاق رضي الله عنه: من علامة المعرفة: ألا تسأل حوائجك، قلَّتْ أو كثُرت، إلا من الله سبحانه، مثل موسى عليه السلام؛ اشتاق إلى الرؤية، فقال: رب أرني أنظر إليك، واحتاج مرة إلى رغيف، فقال: رب إني لما أنزلتَ إليّ من خير فقير. اهـ. وقال في التنوير: اعلم، رحمك الله، أن رفع الهمة عن المخلوقين، وعدم التعرض لهم، أزين لهم من الحليّ للعروس، وهم أحوج إليه من الماء لحياة النفوس... إلخ كلامه رضي الله عنه.


قلت: {عبدًا}: بدل من {مَثَلاً}، و{مَن}: نكرة موصوفة، أي: عبدًا مملوكًا، وحرًا رزقناه منا رزقًا حسنًا، وقيل: موصولة. و{سرًّا وجهرًا}: على إسقاط الخافض، وجمع الضمير في {يستوون}؛ لأنه للجنسين، و{رجلين}: بدل من: {مَثَلاً}.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ضَرَبَ اللهُ مثلاً} لضعف العبودية، وعظمة الربوبية، ثم بيَّنه فقال: {عبدًا مملوكًا لا يقدرُ على شيءٍ}، وهذا مثال للعبد، {ومن رزقناه} أي: وحرًا رزقناه {مِنا رزقًا حسنًا فهو} يتصرف فيه كيف يشاء، {ينفق منه سرًا وجهرًا}، وهذا: مثال للرب تبارك وتعالى، مَثَّلَ ما يشرك به من الأصنام بالمملوك العاجز عن التصرف رأسًا، ومَثَّل لنفسه بالحر المالك الذي له مال كثير، فهو يتصرف فيه، وينفق منه كيف شاء.
وقيل: هو تمثيل للكافر المخذول والمؤمن الموفق. وتقييد العبد بالمملوك؛ للتمييز من الحر؛ فإنه أيضًا عبدٌ لله. وبسلْب القدرة عن المكاتب والمأذون في التصرف، فإن الأصنام إنما تشبه العبد الْقِنّ الذي لا شوب حرية فيه، بل هي أعجز منه بكثير، فكيف تضاهي الواحد القهار، الذي لا يعجزه مقدور؟ ولذلك قال: {هل يستوون}؟ أي: العبيد العجزة، والمتصرف بالإطلاق. {الحمد لله} على بيان الحق ووضوحه؛ لأنها نعمة جليلة يجب الشكر عليها، أو الحمد كله لله لا يستحقه غيره، فضلاً عن العبادة؛ لأنه مولى النعم كلها. {بل أكثرهم لا يعلمون} أي: لا علم لهم: فيضيفون النعم إلى غيره ويعبدونه لأجلها، أو لا يعلمون ما يصيرون إليه من العذاب فيشركون به.
ثم ضرب الله مثلاً آخر فقال: {وضَرَبَ اللهُ مثَلاً}، ثم بيًّنه بقوله: {رجلين أحدهما أبْكَمُ}؛ وُلد أخرس، لا يَفهم ولا يُفهم، {لا يقدر على شيء} من الصنائع والتدابير؛ لنقصان عقله، {وهو كَلٌّ} أي: ثقيل عيال {على مولاه} الذي يلي أمره، {أينما يُوجهه}: يُرسله في حاجة أو أمر {لا يأتِ بخير}؛ بنجح وكفاية مهم. وهذا مثال للأصنام. {هل يستوي هو} أي: الأبكم المذكور، {ومَن يأمر بالعدل}؛ ومن هو مِنطيقٌ متكلم بحوائجه، ذو كفاية ورشد، ينفع الناس ويحثهم على العدل الشامل لمجامع الفضائل، {وهو على صراط مستقيم} أي: وهو في نفسه على طريق مستقيم، لا يتوجه إلى مطلب إلا ويحصله بأقرب سعْي؟
وهذا مثال للحق تعالى، فضرب هذا المثل لإبطال المشاركة بينه وبين الأصنام، وقيل: للكافر والمؤمن. والأصوب: كون المَثَليْن معًا في الله مع الأصنام؛ لتكون الآية من معنى ما قبلها وما بعدها في تبيين أمر الله، والرد على أمر الأصنام. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الحق تعالى موصوف بكمالات الربوبية، منعوت بعظمة الألوهية، وعبيده موسومون بنقائص العبودية، وقهرية الملكية. فمن أراد أن يمده الله في باطنه بكمالات الربوبية؛ من قوة وعلم، وغنى وعز، ونصر وملك، فليتحقق في ظاهره بنقائص العبودية؛ من ذل، وفقر، وضعف، وعجز، وجهل. فبقدر ما تجعل في ظاهرك من نقائص العبودية يمدك في باطنك بكمالات الربوبية؛ «تحقق بوصفك يمدك بوصفه»، والتحقق بالوصف إنما يكون ظاهرًا بين خلقه، لا منفردًا وحده؛ إذ ليس فيه كبير مجاهدة؛ إذ كل الناس يقدرون عليه، وإنما التحقق بالوصف- الذي هو ضامن للمدد الإلهي- هو الذي يظهر بين الأقران. وبالله التوفيق.


قلت: {أمهات}: جمع أم، زيدت فيه الهاء؛ فرقًا بين من يعقل ومن لا يعقل، قاله ابن جزي. والذي لغيره حتى ابن عطية: إنما زيدت؛ لمبالغة والتأكيد. وقرئ بضم الهمزة، وبكسرها؛ اتباعًا للكسرة قبلها.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولله غيبُ السماواتِ والأرض} أي: يعلم ما غاب فيهما، كان محسوسًا أو غير محسوس؛ قد اختص به علمه، لا يعلمه غيره. ثم برهن على كمال قدرته فقال: {وما أمرُ الساعةِ} أي: قيام القيامة، في سرعته وسهولته، {إلا كلمح البصر}؛ كرد البصر من أعلى الحدقة إلى أسفلها، {أو هو أقرب}: أو أمرها أقرب منه؛ بأن يكون في زمان نصف تلك الحركة، بل أقل؛ لأن الحق تعالى يحيي الخلائق دفعة واحدة، في أقل من رمشة عين، و {أو} للتخيير، أو بمعنى بل. {إن الله على كل شيء قدير}؛ فيقدر على أن يُحيي الخلائق دفعة، كما قدر أن يوجدهم بالتدريج.
ثم دلَّ على قدرته فقال: {والله أخرجكم من بُطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا}؛ جهالاً، {وجعل لكم السمعَ} أي: الأسماع {والأبصارَ والأفئدة} أي: القلوب، فتكتسبون، بما تُدركون من المحسوسات، العلوم البديهية، ثم تتمكنون من العلوم النظرية بالتفكر والاعتبار، ثم تُدركون معرفة الخالق {لعلكم تشكرون} نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد، أظهركم أولاً من العدم، ثم أمدكم ثانيًا بضروب النعم، طورًا بعد طور، حتى قدمتم عليه.
وقدَّم في جميع القرآن نعمة السمع على البصر؛ لأنه أنفع للقلب من البصر، وأشد تأثيرًا فيه، وأعم نفعًا منه في الدين؛ إذ لو كانت الناس كلهم صمًا، ثم بُعِثت الرسل، فمن أين يدخل عليهم الإيمان والعلم؟ وكيف يدركون آداب العبودية وأحكام الشرائع؟ إذ الإشارة تتعذر في كثير من الأحكام، وإنما أفرده، وجمع الأبصار والأفئدة؛ لأن متعلق السمع جنس واحد، وهي الأصوات، بخلاف متعلق البصر، فإنه يتعلق بالأجرام والألوان، والأنوار والظلمات، وسائر المحسوسات، وكذلك متعلق القلوب؛ معاني ومحسوسات، فكانت دائرة متعلقهما أوسع مع متعلق السمع. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما غاب في سماوات الأرواح من علوم أسْرار الربوبية، وفي أرض النفوس من علوم أحكام العبودية، هو في خزائن الله، يفتح منهما ما شاء على من يشاء؛ إذ أمره تعالى بين الكاف والنون. وما أمر الساعة، التي يفتح الله فيها الفتح على عبده، بأن يميته عن نفسه، ثم يحييه بشهود طلعة ذاته، إلا كلمح البصر أو هو أقرب. لكن حكمته اقتضت الترتيب والتدريج، فيُخرجه إلى هذا العالم جاهلاً، ثم يفتح سمعه للتعلم والوعظ، وبصره للنظر والاعتبار، وقلبه للشهود والاستبصار، حتى يصير عالمًا عارفًا بربه، من الشاكرين الذين يعبدون الله، شكرًا وقيامًا برسم العبودية. وبالله التوفيق.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12